الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين} قوله تعالى{الملك يومئذ لله يحكم بينهم{ يعني يوم القيامة هو لله وحده لا منازع له فيه ولا مدافع. والملك هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور. ثم بين حكمه فقال{فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين{. قلت: وقد يحتمل أن تكون الإشارة بـ {يومئذ{ ليوم بدر، وقد حكم فيه بإهلاك الكافر وسعادة المؤمن؛ وقد {والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين، ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم} أفرد ذكر المهاجرين الذين ماتوا وقتلوا تفضيلا لهم وتشريفا على سائر الموتى. وسبب نزول هذه الآية أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه؛ فنزلت هذه الآية مسوية بينهم، وأن الله يرزق جميعهم رزقا حسنا. وظاهر الشريعة يدل على أن المقتول أفضل. وقد قال بعض أهل العلم: إن المقتول في سبيل الله والميت في سبيل الله شهيد؛ ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله. وقال بعضهم: هما سواء، واحتج بالآية، وبقوله تعالى {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور} قوله تعالى{ذلك ومن عاقب{ {ذلك{ في موضع رفع؛ أي ذلك الأمر الذي قصصنا عليك. قال مقاتل: نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم؛ فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام؛ فأبى المشركون إلا القتال، فحملوا عليهم فثبت المسلمون ونصرهم الله على المشركين؛ وحصل في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام شيء؛ فنزلت هذه الآية. وقيل: نزلت في قوم من المشركين، مثلوا بقوم من المسلمين قتلوهم يوم أحد فعاقبهم رسول الله بمثله. فمعنى {من عاقب بمثل ما عوقب به{ أي من جازى الظالم بمثل ما ظلمه؛ فسمى جزاء العقوبة عقوبة لاستواء الفعلين في الصورة؛ فهو مثل {ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير} قوله تعالى{ذلك بأن الله يولج الليل في النهار{ أي ذلك الذي قصصت عليك من نصر المظلوم هو بأني أنا الذي أولج الليل في النهار فلا يقدر أحد على ما أقدر عليه؛ أي من قدر على هذا قدر على أن ينصر عبده. وقد مضى في {آل عمران{ معنى يولج الليل في النهار. {وأن الله سميع بصير{ يسمع الأقوال ويبصر الأفعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرة ولا دبيب نملة إلا يعلمها ويسمعها ويبصرها. {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير} قوله تعالى{ذلك بأن الله هو الحق{ أي ذو الحق؛ فدينه الحق وعبادته حق. والمؤمنون يستحقون منه النصر بحكم وعده الحق {وأن ما يدعون من دونه هو الباطل{ أي الأصنام التي لا استحقاق لها في العبادات. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر {وأن ما تدعون{ بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم. الباقون بالياء على الخبر هنا وفي لقمان، واختاره أبو عبيد. {وأن الله هو العلي{ أي العالي على كل شيء بقدرته، والعالي عن الأشباه والأنداد، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله. {الكبير{ أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن. وقيل: الكبير ذو الكبرياء. والكبرياء عبارة عن كمال الذات؛ أي له الوجود المطلق أبدا وأزلا، فهو الأول القديم، والآخر الباقي بعد فناء خلقه. {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير} قوله تعالى{ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة{ دليل على كمال قدرته؛ أي من قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت؛ كما قال الله عز وجل معناه قد سألته فنطق. وقيل استفهام تحقيق؛ أي قد رأيت، فتأمل كيف تصبح! أو عطف لأن المعنى ألم تر أن الله ينزل. وقال الفراء{ألم تر{ خبر؛ كما تقول في الكلام: اعلم أن الله عز وجل ينزل من السماء ماء. {فتصبح الأرض مخضرة{ أي ذات خضرة؛ كما تقول: مقلة ومسبعة؛ أي ذات بقل وسباع. وهو عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة. قال ابن عطية: وروي عن عكرمة أنه قال: هذا لا يكون إلا بمكة وتهامة. ومعنى هذا: أنه أخذ قوله {فتصبح{ مقصودا به صباح ليلة المطر وذهب إلى أن ذلك الاخضرار يتأخر في سائر البلاد، وقد شاهدت هذا [في] السوس الأقصى نزل المطر ليلا بعد قحط أصبحت تلك الأرض الرملة التي نسفتها الرياح قد أخضرت بنبات ضعيف رقيق. {إن الله لطيف خبير{ قال ابن عباس: ({خبير{ بما ينطوي عليه العبد من القنوط عند تأخير المطر. {لطيف{ بأرزاق عباده). وقيل: لطيف باستخراج النبات من الأرض، خبير بحاجتهم وفاقتهم. {له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد} قوله تعالى{له ما في السماوات وما في الأرض{ خلقا وملكا؛ وكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه. {وإن الله لهو الغني الحميد{ فلا يحتاج إلى شيء، وهو المحمود في كل حال. {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم} قوله تعالى{ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض{ ذكر نعمة أخرى، فأخبر أنه سخر لعباده ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار. {والفلك{ أي وسخر لكم الفلك في حال جريها. وقرأ أبو عبدالرحمن الأعرج {والفلك{ رفعا على الابتداء وما بعده خبره. الباقون بالنصب نسقا على قوله {ما في الأرض{. {ويمسك السماء أن تقع على الأرض{ أي كراهية أن تقع. وقال الكوفيون: لئلا تقع. وإمساكه لها خلق السكون فيها حالا بعد حال. {إلا بإذنه{ أي إلا بإذن الله لها بالوقوع، فتقع بإذنه، أي بإرادته وبحيلته. {إن الله بالناس لرؤوف رحيم{ أي في هذه الأشياء التي سخرها لهم. {وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور} قوله تعالى{وهو الذي أحياكم{ أي بعد أن كنتم نطفا. {ثم يميتكم{ عند انقضاء آجالكم. {ثم يحييكم{ أي للحساب والثواب والعقاب. {إن الإنسان لكفور{ أي لجحود لما ظهر من الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته. قال ابن عباس: يريد الأسود بن عبد الأسد وأبا جهل بن هشام والعاص بن هشام وجماعة من المشركين. وقيل: إنما قال ذلك لأن الغالب على الإنسان كفر النعم؛ كما قال تعالى {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم} قوله تعالى{لكل أمة جعلنا منسكا{ أي شرعا. {هم ناسكوه{ أي عاملون به. {فلا ينازعنك في الأمر{ أي لا ينازعنك أحد منهم فيما يشرع لأمتك؛ فقد كانت الشرائع في كل عصر. وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أم الذبائح، وقولهم للمؤمنين: تأكلون ما ذبحتم ولا تأكلون ما ذبح الله من الميتة، فكان ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم بسكاكينكم؛ فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة. وقد مضى هذا في {الأنعام{ والحمد لله. وقد تقدم في هذه السورة ما للعلماء في قوله تعالى {وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون، الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون} قوله تعالى{وإن جادلوك{ أي خاصموك يا محمد؛ يريد مشركي مكة. {فقل الله أعلم بما تعملون{ يريد من تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم؛ عن ابن عباس. وقال مقاتل: (هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وهو في السماء السابعة لما رأى من آيات ربه الكبرى؛ فأوحى الله إليه) {وإن جادلوك{ بالباطل فدافعهم بقولك {الله أعلم بما تعملون{ من الكفر والتكذيب؛ فأمره الله تعالى بالإعراض عن مماراتهم صيانة له عن الاشتغال بتعنتهم؛ ولا جواب لصاحب العناد. {الله يحكم بينكم يوم القيامة{ يريد بين النبي صلى الله عليه وسلم وقومه. {فيما كنتم فيه تختلفون{ يريد في خلافكم آياتي، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل. في هذه الآية أدب حسن علمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتا ومراء ألا يجاب ولا يناظر ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة بالسيف؛ يعني السكوت عن مخالفه والاكتفاء بقوله{الله يحكم بينكم{. {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير} قوله تعالى{ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض{ أي وإذ قد علمت يا محمد هذا وأيقنت فاعلم أنه يعلم أيضا ما أنتم مختلفون فيه فهو يحكم بينكم. وقد قيل: إنه استفهام تقرير للغير. {إن ذلك في كتاب{ أي ما يجري في العالم فهو مكتوب عند الله في أم الكتاب. {إن ذلك على الله يسير{ أي إن الفصل بين المختلفين على يسير. وقيل: المعنى إن كتاب القلم الذي أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة على الله يسير. {ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير} قوله تعالى{ويعبدون{ يريد كفار قريش. {من دون الله ما لم ينزل به سلطانا{ أي حجة وبرهانا. وقد تقدم في (آل عمران). {وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير{. {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير} قوله تعالى{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات{ يعني القرآن. {تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر{ أي الغضب والعبوس. {يكادون يسطون{ أي يبطشون. والسطوة شدة البطش؛ يقال: سطا به يسطو إذا بطش به؛ كان ذلك بضرب أو بشتم، وسطا عليه. {بالذين يتلون عليهم آياتنا{ وقال ابن عباس: (يسطون يبسطون إليهم أيديهم). محمد بن كعب: أي يقعون بهم. الضحاك: أي يأخذونهم أخذا باليد، والمعنى واحد. وأصل السطو القهر. والله ذو سطوات؛ أي أخذات شديدة. {قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار{ أي أكره من هذا القرآن الذي تسمعون هو النار. فكأنهم قالوا: ما الذي هو شر؛ فقيل هو النار. وقيل: أي هل أنبكم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم هو النار؛ فيكون هذا وعيدا لهم على سطواتهم بالذين يتلون القرآن. ويجوز في {النار{ الرفع والنصب والخفض؛ فالرفع على هو النار، أو هي النار. والنصب بمعنى أعني، أو على إضمار فعل مثل الثاني، أو يكون محمولا على المعنى؛ أي أعرفكم من ذلكم النار. والخفض على البدل. {وعدها الله الذين كفروا{ في القيامة. {وبئس المصير{ أي الموضع الذي يصيرون إليه وهو النار. {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} قوله تعالى{يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له{ هذا متصل بقوله{ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا{. وإنما قال {ضرب مثل{ لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم. فإن قيل: فأين المثل المضروب؛ ففيه وجهان: الأول: قال الأخفش: ليس ثم مثل، وإنما المعنى ضربوا لي مثلا فاستمعوا قولهم؛ يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره؛ فكأنه قال جعلوا لي شبيها في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه. الثاني: قول القتبي: وأن المعنى يا أيها الناس، مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا وإن سلبها الذباب شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه. وقال النحاس: المعنى ضرب الله عز وجل ما يعبد من دونه مثلا، قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ أي بين الله لكم شبها ولمعبودكم. {إن الذين تدعون من دون الله{ قراءة العامة {تدعون{ بالتاء. وقرأ السلمي وأبو العالية ويعقوب {يدعون{ بالياء على الخبر. والمراد الأوثان الذين عبدوهم من دون الله، وكانت حول الكعبة، وهي ثلاثمائة وستون صنما. وقيل: السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله عز وجل. وقيل: الشياطين الذين حملوهم على معصية الله تعالى؛ والأول أصوب. {لن يخلقوا ذبابا{ الذباب اسم واحد للذكر والأنثى، والجمع القليل أذبة والكثير ذبان؛ على مثل غراب وأغربة وغربان؛ وسمي به لكثرة حركته. الجوهري: والذباب معروف الواحدة ذبابة، ولا تقل ذبانة. والمذبة ما يذب به الذباب. وذباب أسنان الإبل حدها. وذباب السيف طرفه الذي يضرب به. وذباب العين إنسانها. والذبابة البقية من الدين. وذبب النهار إذا لم يبق منه إلا بقية. والتذبذب التحرك. والذبذبة نوس الشيء المعلق في الهواء. والذبذب الذكر لتردده. وفي الحديث {ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز} قوله تعالى{ما قدروا الله حق قدره{ أي ما عظموه حق عظمته؛ حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له. وقد مضى في {الأنعام{. {إن الله لقوي عزيز{ تقدم. {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور} قوله تعالى{الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس{ ختم السورة بأن الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم لتبليغ الرسالة؛ أي ليس بعثه محمدا أمرا بدعيا. وقيل: إن الوليد بن المغيرة قال: أو أنزل عليه الذكر من بيننا؛ فنزلت الآية. وأخبر أن الاختيار إليه سبحانه وتعالى. {إن الله سميع{ لأقوال عباده {بصير{ بمن يختاره من خلقه لرسالته. {يعلم ما بين أيديهم{ يريد ما قدموا. {وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور{ يريد ما خلفوا؛ مثل قوله في يس {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا{ تقدم في أول السورة أنها فضلت بسجدتين؛ وهذه السجدة الثانية لم يرها مالك وأبو حنيفة من العزائم؛ لأنه قرن الركوع بالسجود، وأن المراد بها الصلاة المفروضة؛ وخص الركوع والسجود تشريفا للصلاة. وقد مضى القول في الركوع والسجود مبينا في {البقرة{ والحمد لله وحده. {واعبدوا ربكم{ أي امتثلوا أمره. {وافعلوا الخير{ ندب فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع. {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} قوله تعالى{وجاهدوا في الله حق جهاده{ قيل: عنى به جهاد الكفار. وقيل: هو إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه؛ أي جاهدوا أنفسكم في طاعة الله وردوها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في رد وسوسته، والظلمة في رد ظلمهم، والكافرين في رد كفرهم. قال ابن عطية: وقال مقاتل وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى قوله تعالى{هو اجتباكم{ أي اختاركم للذب عن دينه والتزام أمره؛ وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة؛ أي وجب عليكم أن تجاهدوا لأن الله اختاركم له. قوله تعالى{من حرج{ أي من ضيق. وقد تقدم في {الأنعام{. وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام؛ وهي مما خص الله بها هذه الأمة. روى معمر عن قتادة قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي: كان يقال للنبي اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة{وما جعل عليكم في الدين من حرج{. والنبي شهيد على أمته، وقيل لهذه الأمة{لتكونوا شهداء على الناس{. ويقال للنبي: سل تعطه، وقيل لهذه الأمة{ادعوني أستجب لكم{. واختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله تعالى؛ فقال عكرمة: هو ما أحل من النساء مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت يمينك. وقيل: المراد قصر الصلاة، والإفطار للمسافر، وصلاة الإيماء لمن لا يقدر على غيره، وحط الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعديم الذي لا يجد ما ينفق في غزوه، والغريم ومن له والدان، وحط الإصر الذي كان على بني إسرائيل. وقد مضى تفصيل أكثر هذه الأشياء. وروي عن ابن عباس والحسن البصري (أن هذا في تقديم الأهلة وتأخيرها في الفطر والأضحى والصوم؛ فإذا أخطأت الجماعة هلال ذي الحجة فوقفوا قبل يوم عرفة بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم)، على خلاف فيه بيناه في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه. وما ذكرناه هو الصحيح في الباب. وكذلك الفطر والأضحى؛ لما قال العلماء: رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلابة والسراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجا من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله تعالى؛ ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج. قوله تعالى{ملة أبيكم{ قال الزجاج: المعنى اتبعوا ملة أبيكم. الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف؛ كأنه قال كملة. وقيل: المعنى وافعلوا الخير فعل أبيكم، فأقام الفعل مقام الملة. وإبراهيم هو أبو العرب قاطبة. وقيل: الخطاب لجميع المسلمين، وإن لم يكن الكل من ولده؛ لأن حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد. {هو سماكم المسلمين من قبل{ قال ابن زيد والحسن{هو{ راجع إلى إبراهيم؛ والمعنى: هو سماكم المسلمين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم. {وفي هذا{ أي وفي حكمه أن من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم فهو مسلم. قال ابن زيد: وهو معنى قوله
|